تداول مستخدمو الشبكات الاجتماعية (فيسبوك وتويتر) منذ أيام صورة لبعض رجال الشرطة يقوم أحدهم بسحل فتاة، قيل أنها طالبة بجامعة الأزهر، وقيل أيضا أن ذلك تم أثناء إلقاء القبض عليها في محيط المدينة الجامعية لطالبات الجامعة ذاتها في مدينة نصر.
أن يقوم رجال الشرطة بسحل شخص ما أثناء القبض عليه، ليس أمرا جديدا، بل هو في الواقع أمر أكثر من شائع. وهو يحدث بغض النظر عن جنس المقبوض عليه. ليس لأن الشرطة تطبق مبدأ المساواة بين الجنسين بصفة عامة، فهي عادة تخص النساء بمعاملة خاصة حينما تعتقلهن تتمثل في أن يأخذ الاعتداء عليهن طابع التحرش الجنسي، بمعدل أكثر كثيرا مما يتعرض له الرجال، الذين لا يسلمون بالمناسبة من التحرش الجنسي بهم في مثل هذه الظروف. على أي حال كان الجديد هذه المرة هو وجود أحدهم مع كاميرا تصوير في مكان الواقعة مما أتاح صورا لعملية السحل. وحيث أننا مجتمع محافظ بطبيعته، أو بمعنى أصح مجتمع ذكوري حتى النخاع، أثارت هذه الصور حفيظة العديد ممن شاهدوها. وعلى جانب آخر استنفرت عددا آخر للتشكيك في صحتها واتهام من نشرها بالتلفيق. وظهرت صورة معالجة (المصطلح الشائع هو “فوتوشوب”) تختفي فيها الفتاة، مع ادعاء أن هذه الصورة هي الأصلية في حين أضيفت صورة الفتاة إلى الصورة الأولى تلفيقا. لكن وجود عدة صور للواقعة من زوايا مختلفة وكذلك عدم إتقان معالجة الصورة التي تختفي فيها الفتاة ربما لأن مزورها كان في عجلة من أمره، كل ذلك جعل من المستحيل إنكار الواقعة ذاتها، وفتح بدلا من ذلك الباب لمحاولات تبريرها التي أثارت مناقشات مطولة تعيد إلى الذاكرة تلك التي دارت حول الصورة والفيديو الشهيرين للفتاة التي أصبحت تعرف بست البنات والتي تعرضت للضرب والسحل والتعرية من قبل قوات الجيش في ميدان التحرير في مثل هذا الشهر منذ عامين.
لم يغب التشابه الكبير بين واقعتي السحل عن ذهن عدد كبير من المشاركين في المناقشات المحتدمة حول الصورة الجديدة. واستخدم بعضهم المقارنة بين الواقعتين لإبراز المفارقة بين موقف المنتمين أو المتعاطفين مع جماعة الإخوان المسلمين منهما. فعندما سحلت الفتاة الأولي في التحرير منذ عامين كان الإخوان المسلمون وغيرهم من الإسلاميين يعيشون شهر عسل دافئ أو ساخن حسب الظروف مع المجلس العسكري الحاكم حينها، ولذلك كانوا على رأس من انبرى لتبرير الواقعة بل لتصوير ضحيتها كجاني بدلا من أن تكون مجنيا عليها، وكان من الإسلاميين حينها من أطلق عبارة “هي إيه اللي وداها هناك”؟ كما كان من الإسلاميين من أثار نقاشا طويلا مبتذلا عن العباءة التي ارتدتها الفتاة وعن بقية ملابسها. وفي اللحظة الحاضرة صور البعض الواقعة الجديدة كنموذج لقصاص القدر العادل من هؤلاء الذين تعاملوا بوضاعة مع الواقعة الأولى فتكررت مع واحدة، افترضوا أنها محسوبة عليهم! ومع ضعة هذا التصور وإغفاله أن الضحية الجديدة لا ذنب لها فيما اقترفه محسوبون على تيار سياسي ربما تنتمي إليه، فإن الأكثر وضاعة كان استخدام البعض المفارقة ذاتها ليس لتبرير سحل الفتاة التي اعتبروها بالضرورة إخوانية فحسب وإنما لتسفيه موقف من يرفضه من منطلق أن من العدل أن يتخذ الطرف الآخر من الإخوان نفس الموقف الذي سبق لهم أن اتخذوه!
في المقابل وجد آخرون الفرصة سانحة لاستخدام مقطع فيديو يصور طالبات، قيل أنهن إخوانيات، يعتدين على سيدة، قيل أنها من هيئة التدريس بإحدى كليات جامعة الأزهر، ويجردنها من ثيابها، في التدليل على أن مثل هذه الكائنات المتجردة من الإنسانية إلى حد الإقدام على هذا الفعل هن بالضرورة لا يستحققن استنكار معاملة إحداهن بالمثل! وإذا أغفلنا حقيقة أنه لا يوجد أي دليل واضح على الأقل لدى أي ممن شاركوا في هذه النقاشات على أن الطالبة التي تعرضت للسحل هي بالتأكيد تنتمي إلى جماعة الإخوان، وإذا حتى أغفلنا أن العقوبة الجماعية حسب الهوية هي منافية للمنطق الإنساني وللقانون، فسيظل هناك إشكالية كبيرة في تصور معاقبة فعل مؤثم بتوقيعه هو نفسه على فاعله. فحتى في إطار العدالة التقليدية القديمة وفق مبدأ العين بالعين والسن بالسن، فإن هتك العرض لم يكن يعاقب بهتك عرض مرتكبه.
قد يجد البعض في مثل هذه المناقشات العبثية والمتكررة بصفة يومية دلالة على خلل طارئ ووليد لحالة الشحن المجتمعي والاستقطاب السائد حاليا، في مفاهيم العدالة لدى الغالبية. وسيؤكد آخرون أن تكرار وقائع التعدي على النساء تحديدا سواء من قبل القوات النظامية التابعة للسلطة أو من قبل أفراد محسوبين على جماعات إسلامية أو غيرهم، هو دلالة على أن حالة الشحن والاستقطاب ذاتها قد جردت مجتمعنا بشكل مؤقت من طابعه الأصيل الذي يسبغ حماية خاصة على الأنثى وجسدها، أو الأنثى بصفتها جسد لا ينبغي انتهاكه. والواقع أنه لا يمكن تبرئة الحالة الراهنة للمجتمع من تهمة ما. ولكن هذه التهمة ليست إنتاج خلل طارئ في الحالة الأولي أو تجريد المجتمع من طابع أصيل فيه في الثانية. في الحقيقة إن ما يمكننا أن نتهم به هذه الحالة الراهنة هو فقط كشفها لخلل قديم في مفهوم العدالة، وعن وجه خفي للطابع الأصيل (الذكوري) للمجتمع.
ربط الجريمة والعقاب بالهوية الجماعية ليس أمرا طارئا على تصور المجتمع المصري للعدالة. وهو متكرر الظهور بشكل خاص في أعمال العنف الطائفي التي تكررت بصورة اعتيادية في الماضي ومازالت تتكرر حتى اليوم. في غالب وقائع العنف الطائفي تبدأ الأحداث بفعل فردي يتم الرد عليه بعقوبة جماعية للجانب الذي ينتمي إليه صاحب هذا الفعل الفردي. ويتم إسباغ الشرعية على هذه الممارسة المعتادة من خلال تسوية النزاع الطائفي في جلسات صلح عرفي ترعاها الدولة والمؤسسات الدينية بين الطائفتين، وغالبا ما تنتهي جلسات الصلح هذه بعقوبة يتحملها أهل الجاني في الواقعة الأصلية أو في وقائع النزاع بصورة جماعية.
العنف ضد النساء أيضا ليس غريبا عن مجتمعنا وهو بالتأكيد ليس خروجا عن تقاليده الذكورية المحافظة وإنما نتيجة طبيعية لها. اختزال المجتمع الذكوري المزدوج للمرأة أولا في كونها عرض وشرف ذكر أو جماعة من الذكور، واختزالها ثانيا في كونها جسد مجرد من أي خصوصية شخصية، يجعل منها هدفا مثاليا للعنف الموجه لمن (تخصه أو تخصهم). كما يجعل من انتهاك جسدها الشكل المفضل دائما لممارسة العنف عليها أو من خلالها. ليست معاقبة شخص أو عائلة بالتعدي على من يعتبرن تابعات للشخص أو العائلة من النساء ممارسة غريبة على هذا المجتمع. بل هي ليست غريبة عن سلوكيات السلطة نفسها، فاعتقال أم أو أخت أو زوجة أحدهم لإجباره على تسليم نفسه أو الاعتراف بجريمة هو ممارسة شائعة، والتهديد بالاعتداء الجنسي على أي من هؤلاء وربما تنفيذه فعليا هو جزء أصيل من هذه الممارسة الشائعة. المبالغة الظاهرية في استنكار العدوان على المرأة ليس احتراما يميزها على الرجل بقدر ما هو اختزال لها كنقطة الضعف الأكثر حساسية للرجل أو الرجال الذين تخضع لولايتهم. وهذه المبالغة لا تنجح في إسباغ أي حماية على المرأة وإنما تجعلها في معظم الوقت عرضة للعنف أكثر وأكثر.
ربما ليست المناقشات السائدة على شبكات التواصل الاجتماعي هذه الأيام عبثية بقدر ما هي كاشفة عن أمراض متوطنة في مجتمعنا أدت السيولة الحالية لإخراجها إلى السطح بمعدل أكبر من المعتاد. مثل هذه الأمراض لن يفيد في علاجها تصور أنها طارئة أو وقتية، فمثل هذا التصور يولد لدى البعض فقط رغبة في إزاحة ما يعتبرونه صورا غريبة عن المجتمع بعيدا عن مجال رؤيتهم ظنا بأنها بذلك ستختفي. هذه الصور أيضا ليست منبتة الصلة بمجمل الأزمة التي يمر بها مجتمعنا هذه الأيام والتي يتصور البعض إمكان اختزالها في صورة صراع سياسي. فواقع الأمر أن ما بدأ منذ ثلاثة أعوام ومازال مستمرا هو حالة فوران اجتماعي أدت إلى إخراج كل ما تراكم في مجتمعنا من قبح ليس على مر عقود فحسب وإنما على مر قرون. ونحن اليوم نملك خيارا لا يكون متاحا إلا في مرات نادرة في حياة كل مجتمع، وهو الخيار بين أن نواجه القبح داخلنا ونستكشف جذوره الحقيقية وبين أن نحاول إهالة التراب على ما تكشف منه وننكر وجوده ونستمر في التعايش معه.
The post تامر موافي: عدالة السحل في مجتمع ذكوري appeared first on البديل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق